• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / العلامة محمد بهجة الأثري / ديوان الأثري
علامة باركود

مقدمة لديوان " دمشق في عيون الأثري "

مقدمة لديوان " دمشق في عيون الأثري "
د. عدنان الخطيب

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 12/2/2013 ميلادي - 1/4/1434 هجري

الزيارات: 12818

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مقدمة لديوان "دمشق في عيون الأثري"


إنّ قوارير الطِّيب إنّما تغلو بقدرِ ما فيها من عِطْر، والعِطْرُ يغلو مع نـَدْرَة الزَّهْر الذي استخلص منه، أفرأيتَ إلى قارورة من ذهب خالص مُلِئت بأغلى العطور؟

 

بين يَدَيَّ الآن ما هو أثمن من أيّ قارورة طيب، إنـّه ديوانٌ صدر حديثاً، تقرأ فيه شعراً بلغة سليمة مُشرقة، شعراً مُتألِّقَ القَسَمات، فتّان الرُّواءِ، يتيه بأبراد موشّاةٍ بأروعِ الصُّوَر، تُحِسُّ معها صنعة مَنْ يتذوّق الجمال، ويُحسن اختيار الألفاظ، وتشتمُّ - وأنت تقرؤه - شَذا الرَّيْحان، وعَبَق النَّرْجِس، وأرِيج الياسمين.

 

إنـّه ديوان جديد، ديوانُ شعرٍ يَعْرُبـِيّ السِّمات، في نشْرِهِ فخرٌ للعربيّة أيُّ فخر، وهو لعشّاقها خمر، وأية خمر تُسْكِرُ بلا غَوْل ولا إثم؟

 

هذا هو ديوان (ملاحم.. وأزهار) لشاعر بغداد الكبير، وذُخْرِ العربيّة الجليل: الأستاذ (مُحَمَّد بهجة الأثـَرِيّ)[1].

 

لقد امتاز (شعر الأثَرِيّ) بصفات بَوَّأته المكانة الرفيعة التّي يحتلّها اليومَ بين شعراء العربيّة، وهو الّذي أغنى الأدباءَ والنُّقّادَ بشعره عن تعريف الشّعر وبيان حقيقته، فحدّد بنفسه معالمه، ووصف سماته، وعَدَّدَ بواعثه، مُشيداً بالنبيل من غاياته ومقاصده، فاستهلّ ديوانه بقصيدة من عيون الشِّعر خَطَّها بيده، سَلِمَتْ يَدُه وقال في مطلعها[2]:

الشّعْرُ... ماروّى النُّفُوسَ مَعِينُهُ
وجَرَتْ برقَرْاقِ الشُّعُورِ عُيُونُهُ
وصَفَتْ كلألاءِ الضيّاءِ حُرُوفُهُ
وزهت بِوَضَّاءِ البيانِ مُتٌونُهُ
متألّقُ القَسَماتِ، فَتّانُ الرُّؤَا
يزهو صِبا الفصحى الطَّريِرَ رَصِينُهُ
حُرُّ المذاهبِ... لا يشوبُ أصُولَهُ
كَدَرٌ، ولا واهِي اللغاتِ يَشِيِنُهُ
ابنُ الحقيقة، والحقيقةُ نَهْجُهُ
والصِّدْقُ في أرَب الحياةِ خَدِينُهُ
تجري على سَنَنِ الجلالِ خِلالُهُ
ويَرودُ أوْضاحَ الجمالِ يَقِينُهُ
غَرِدٌ.. كصَدّاح الكَنارِ، مُساوِقٌ
نغمَ الطّبيعةِ، راقِصٌ موزونُهُ

 

ويمضي الشّاعر في تحديد أوصاف الشِّعر الأصيل، ثمّ يتساءل في ختام قصيدته قائلاً:

أيْنَ الجديدُ البِكْرُ.. ليس بظالعٍ
مشَيْاً، وليس بناصِلٍ تلوينُهُ؟
الواثِبُ الرُّوحِ، الأصيلُ شعورُهُ
وخيَالُهُ، ونُزُوعُهُ، ويَقِنُهُ
تمتصُّ من حُرّ البَيانِ عُرُوقُهُ
ويُجِلُّهُ إيقاعُهُ، ويَزِينُهُ
زاهٍ بأبْكارِ التَّخَيُّل ثوبُهُ
لا عُورُهُ تنتاشُهُ، أو عُونُهُ
يَسْتَنُّ سِحرُ الحُسْنِ في أعطافِهِ
ويَتِيهُ منه رَقيقُهُ ومتَيِنُهُ
وكأنَّما سُقِيَ الرُّحِيقَ مُعَلَّلاً
فَتَورَّدَتْ وَجَناتُهُ وعيُوُنُهُ

 

إن (شعر الأثريّ) متعدّدُ الأغراض، متنوع المقاصد، وديوانه (مَلاحِمُ.. وأزهارٌ) سِجِلّ حافل بمختلف المقاصد والأغراض، فمن شعر النّضال والجهاد إلى شعر الفخر والتّغنّي بالمجد التَّلِيد، إلى وصف الطَّبيعة ورسم الظِّلال، ومن شعر الغَزَل ووصف مختلف النّوازع إلى الرِّثاء وبكاء الأحباب...

 

وما أنْسَ لا أنْسَ يوماً من أيّام عام 1941، وقفتُ فيه في (بغداد) مع فِتْيَة أعَدُّوا أنفسهم للاشتراك في (حرب التّحرير العراقيّة)، نستمع إلى (الشّاعر الأثريّ) يخاطب (العِراق)، بصوت حمله الأثير إلى سمع الملايين في مختلف أرجاء الوطن العربيّ، قائلاً من قصيدة طويلة[3]:

غَمَزُوا إباءَكَ، فاضطَرْمتَ أباءَا
وحَشَدْتَ جَوَّكَ، والثَّرَى، والماءَا[4]
رامَوْك لِلذُّلِ المُقِيمِ، وقد مضى
دهرٌ تُسامُ به الشُّعُوبُ سِباءَا!

 

ثمّ عَرَّضَ الشَاعر بِـ (الإنكليز)، الّذين غُلِبُوا على أعصابهم بسبب من هزائم جيوشهم أمام الجيوش الألمانيّة، فقال:

يا وَيْحَهُمْ! غُلِبُوا على أعصابِهِمْ
فتحَرَّشُوا بكَ سَكرةً وغَباءِا

 

ثمّ أشار إلى (الجيش العراقيّ)، وإلى (الجماهير) الَّتي تدفّقت لتحّيته، قائلاً:

أنْظُرْ إلى الأبطالِ كيفَ تَواثَبَتْ
وإلى الثَّنايا كَيْفَ لُحْنَ وِضاءَا
وإلى الحميَّة كيفَ أجَّ لَهِيبُها
وسَرَتْ كألْسِنَة اللّظَى حمراءَا
وإلى الجموعِ الهاتفاتِ.. كأنّها
تستقبلُ الأعْراسَ والنَّعْماءَا

 

وختم الشّاعر قصيدته قائلاً:

يا ساعةَ التّحرير! عُرْسُكِ قد أنى [5]
إنَّ البَشائِرَ لُحْنَ والبُشَراءَا
سَقْياً ليومِكِ في الزَّمانِ، فإنَّهُ
عن ليلةِ القَدْرِ الرَّجِيَّةِ ضاءَا

 

وخرجت (بغدادُ) يومئذٍ عن بَكْرَة أبيها تُلبّي نداء الجهاد، حتّى إذا ما جرت الرِّياح بغيرِ ما تشتهي السُّفُنُ، كان (الشّاعر الأثريّ) في جُملة من اعتُقِل، وحُمِلَ إلى المنفى، جزاءَ ما جرى على لسانه من دعوة إلى استخلاص حقّ مهدور، وثورة على باطل قائم.

 

ولم يستكنِ الشّاعرُ الحُرُّ ولم يَهِنْ، بل رَحَّبَ بالنَّفْي، وأخذ يهتِفُ من أعماق سجنه في (ألفاو)[6] للحريّة الَّتي يَنْشُدُها قومه بروائع من الشّعر الخالد. وفي قصيدة منها يقول[7]:

مُبْلِغِي نَفْيي إلى (ألفاو) الشَّطِيرِ
مَرْحبَاً بالنَّفْيِ والسِّجْنِ الضَّريرِ[8]
مَطْمَحُ الثَّائِرِ آفاقُ السَّما
وكذا مَطْمَحُ رُوّادِ النُّسُورِ
أتَراهُ، إنْ هَوَى، يُضْرِعُهُ
نَبَأُ السِّجْنِ وإيغالِ المسيرِ؟

 

ثمَّ يشير الشّاعر إلى ما صنعه، فكان جزاؤه النَّفْي، معتزّاً بما قدّم، شامخاً بأنفه، لصدقه وإبائه، قائلاً:

كان شِعْرِي في مَآسِي أمَّتِي
عن أمانِيَّ رَسُوِلي وسَفِيرِي
بينَ أيْدِيها تَغَنَّى، وغَدا
بَلْسَمَ الجَرْحَى ومَسْلاةَ الصُّدُورِ
صادِحٌ.. تُذْكي أغانيهِ المُنَى،
أو تُثيرُ الشَّوْقَ في القلبِ الكسيرِ
صَدَقَ الأمَّةَ، إذْ غَنَّى لها
رائِدُ الأمّةِ ذو صِدْقٍ وخيرِ
لم يَزِغْ عنها، ولم يَكذِبْ، ولا
سارَ في موكب مُثْرٍ أو أمِيرِ

 

ثم يصيح الشّاعر بسَجّانيْهِ متوعّداً:

لا أرَى ثورتَنا أبعدَ من
قاب قَوْسَيْنِ، وتَأتِي بالثُّبُورِ!

 

وفي قصيدة أخرى هَتَف للعزّة الوطنّية من أعماق السِّجْن، فقال[9]:

ألا في سبيل الله والوطن الغالي
بِعادِيَ عن داري وعِرْسي وأطفالي
عصافيرُ.. لا ساعٍ يروحُ عليهِمُ
سِوايَ، ولا راعٍ يحوطُ، ولا واليِ

 

ثُمَّ يستدرك الشّاعر قائلاً:

ولكِنَّ أوطاناً، نَعِمْتُ بخيرِها،
سأوثِرُها دوماً على النَّفْسِ والآلِ
إذا وَرَّث الآباءُ أبناءَهم غِنىً
فإنِّيَ قد أغنيتُ بالمجدِ أنْساليِ

 

وإذا كان (شعر الأثريّ) يمتاز بجزالة اللفظ ومتانة الصيّاغة، فإنَّ من أهمّ ميزاته «الغنائيّة» فيه، فهو مطبوع بها وبجمال الصُّوَر، وببراعة انتقاء الألفاظ مع عذوبة جَرْسِها، وكيف لا تكون «الغنائيّة» طابعاً لشعر الأثريّ، وهو القائل في أحلكِ ليالي محنته من قصيدة، عُنْوانُها «سأغَنّي.. وأغَنِّي»[10]:

كيفَ تُعطِيك أمانِيَّكَ من صَفْوٍ وأمْنِ،
دولةٌ ضَاقَتْ بفردٍ واتّقَتْهُ بِمِجَنّ؟
أحَرامٌ أنْ يَطيرَ الطَّيْرُ من غُصْنٍ لغُصْنِ؟
عَجَباً.. والرَّوْضُ روضي زاهياً، والوَكْنُ وَكْنِي!
كيف لا تأخُذُ في أوْطانيَ النَّشْوَةُ مِنّي؟
أنا للحُرّيّة - الدَّهْرَ - أغَنِّي ما أغَنّي
ما لهم قد نَقَمُوا مِنّيَ تغريدِي ولَحنِي؟
وابتغوا ذُلّي وإسْكاتيِ بنَفْيِي وبِسَجْني
سَأغَنِّي.. كلّما يُنْكَأ جُرْحِي، وأغَنِّي
وَيْحَهُمْ! لم يَشْرَبُوا كَأسي، ولا طافُوا بدَنِّي
ليس بالحُرّ الّذي يَجْزَعُ، أو يبكي لِغَبْنِ!

 

والشَّاعر في ديوانه واضح الاتّجاه في الدعوة إلى التَّمَسُّك بمبادئ الإسلام، شديد الاعتزاز بقومه والفخر بعروبته. تراه في الكثير من شعره يتغنّى بمحبّة الأوطان، ويشيد بوحدة الأقطار العربيّة، وهو يستحثّ قومه على النِّضال في سبيل إنقاذ (بيت المقدس) واسترداد (فِلَسْطِين).

 

ويبرز، في زحمة الأغراض الّتي نظم فيها الشاعر، وَجْهُ (دمشق) مشرقاً متلألئاً، إذْ ينزلها من نفسه منزلةً خاصّةً، يتغنّى بمَفاتِنها، ويشيد بأبنائها وقد أصْفَوْهُ الوُدَّ، ومنحوه من حُبّهم وإجلالهم.

 

أتيحت للشاعر فرصة زيارة (دمشق) للمرة الأولى، وهو في عُنْفُوان شبابه لم يجاوز العشرين إلا قليلاً.. كان ذلك في صيف سنة 1343هـ (1925م)، وكان اسم (الأثريّ) قد سبقه إليها بفضل علمه وأدبه، وما قدَّمَهُ به أستاذه علاّمة العِّراق الكبير (محمود شُكْرِي الألُوسيّ) أحد أعضاء (المجمع العلميّ العربيّ) القُدامَى، فلقي الشّاعر الشّابّ من رئيس المجمع ومن أعضائه والشّبابِ من أدباء (دمشق) الُحبَّ والتّقدير.

 

كانت (دمشق) يومئذ حفيّة بأمير الشعراء (أحمد شوقي)، فَهُيّئَ (للأثريّ) أن يكونّ في عِداد المدعوّين إلى حفلات التّكريم، فإذا به يَلْفِت بأدبه وحسن روايته قلبَ أمير الشُّعَراء، فقَرَّبَهُ منه وجعله موضع رعايته، ممّا ترك أعظم الأثر في نفسه، حتّى إذا كانت سنة 1932 نُعِيَ (أحمد شوقي)، فجاشتِ الذّكْرَيات في نفس (الأثَرَيّ)، وذكر (دمشقَ) لأول مرّة في شعره المنشور، فقال من قصيدة يرثي بها أمير الشَعراء[11]:

وكُلُّ قَريضٍ غير ما أنتَ قائلٌ
أحِسُّ كأنّي منه في السَّبَراتِ
وما نَقَمُوا إلا غِناءَك بالهُدَى
حثيثاً، وإلا هَدْمَك الشُّبُهاتِ
وبعثَكَ أمجادَ (العُرُوبة) في ثَرَى
(دِمَشْقَ) وفي (الحمراءِ) مؤتلقاتِ
رَزَنْتَ حَصاةً، فاعتدلتَ مقالةً،
وأنصفتَ مجداً جَلَّ عن غَمَزاتِ

 

ثمَّ ذكر اجتماعه به على ضِفاف (بَرَدَى)، وما خَّلَفه في نفسه من أثر طيّب، فقال:

ألا، لستُ أنسى منك مجلِسَ حكمةٍ
على (بَرَدَى) قد مَرَّ مُذْ سَنَواتِ
أخذَْتَ هَوَى نفسي ببِشْرِك طافحاً
وآنَسْتَنِي باللُّطْفِ والبَسَماتِ
ومَنَّيْتُ نفسي بعدَهُ بالْتِقاءَةٍ
تُرَوِّي جَنانِي أو تَبُلُّ لهَاتي
ولكِنْ أبَتْ أيّامُنا غيرَ ما ترى:
فِراقَ صًفِيٍّ، وانطفاءَ حياةِ!

 

وفي آذار سنة 1936 زار وفد (النُّوّاب العراقيّين) مصرَ، فأقام السُّوريّون المقيمون في (القاهرة) حفل تكريم احتفاءً بهم، أنشد الأثريّ[12] فيه قصيدة أشاد فيها (بالوحدة) الَّتي كانت الأمل الّذي يدغدغ النُّخْبة من مفكري العرب في مختلف أصقاعهم فيها[13]:

شَهِدَ الله. لم تكن (مصرُ) إلا
بنتَ (عَدْنانَ) دارةً وقَبِيلا
اسْألِ (الضّادَ): من رَعاها حُقُوقاً؟
واسْألِ (الذِّكْرَ): من سقاهُ أصولا؟
لمَسَتْ في نِداءِ (بغدادَ) روحاً
يَعْرُبِيّاً، فأؤْسَعَتْهُ قَبُولا
تلك (بغداد) في ذَراها و(نَجْدٌ)
وبلادُ (الشآمِ) عُرْضاً وطولا
إنَّ ما كان أمسِ حُلْماً، تَجلّى
واقِعيّاً، وصَدَّقَ التّأميلا
يَكْذِبُ المُرْجِفُون.. ما ثَمَّ إلا
أمّةٌ، وُحِّدَتْ هَوىً وسبيلا

 

ومرّ وفْد (النّوّاب العِراقيين)، العائد إلى (بغداد)، بِـ (دمشقَ)، وكانت في محنة من المحن التي انتابتها خلال الاحتلال الفِرنسيّ، فوقف الشّاعر في حفل تكريم أقيم للوفد يُنشد الأبيات التالية[14]:

أفَقْنا على صوتٍ يَرُوعُ، مجلجلٍ،
فقلنا: (دِمَشْقُ الشام) في القيدِ تزأرُ
يَحِزُّ بساقَيْها الحديدُ، وما لَهُ
إذا هِيَ لم تغضَبْ على القيد - مَكْسِرُ

 

ونسب الشّاعر (دمشق) إلى (معاوية بن أبي سُفيْانَ) مؤسّس الدّولة الأمَويِّة في (الشّام)، وتساءل قائلاً:

مُعاوِيَّةٌ.. لم تعرف الذُّلَّ ساعةً
فكيفَ على الذُّلِّ المُطاوِلِ تَصْبرُ؟
أسيّدةٌ يستامُها العِلْجُ مركباً
من الذُّلّ؟ هذا الحادث المُتنكِّرُ!

 

ثم أشار الشاعر إلى (جنّات دِمَشْقَ) ينعم بها المستعمر المحتلّ، وأهلُها بين منفيٍّ ومُشَرّدٍ، فقال:

بنفسِيَ من جنّاتِ عَدْنٍ خمائلاً
على بَرَدَى من نَعْمةَ الحُسْن تُزْهِرُ
أيطرُقُها من مارد الإنْس عابثٌ
ويغمُرُها من مائر النَّقْع أكدرُ؟
وواغِلُها في كُلّ روضٍ مُنَعَّمٌ
وآهِلُها في كُلّ مَنْفىً مغوِّرْ؟!

 

وختم الشّاعر قصيدته بحثّ العرب في مختلف أقطارهم على الاتّحاد والتَّمَسُّك بمبادئ الإسلام، قائلاً:

لَعَمْرُ العُلَى لن يبلُغَ (العَرَبُ) العُلَى
وهُمْ فِرَقٌ شَتَّى وشَمْلٌ مُدَمَّرُ
ألا فاسلُكُوها (وَحْدَةً عربيّةً)
لها من (هُدَى الإسْلامِ) رُوحٌ ومَظْهَرُ

 

وليس من عجب في أن نرى الشّاعر، الّذي أحبّ (دِمَشْقَ) وأهلها، وافتتن بطبيعتها وجَمالها، وغَرَّدَ مع بلابلها، وغَنّى مع خريرِ مياهها، يسجّل لهذه المدينة صنيعَها، يوَم زحفت لتودّع (ياسين الهاشمي): ابن بغداد، وقد ضَنَّتْ حكومتها على ثراها أن يضُمَّ رُفاته، فحنت عليه (دمشق)، وكَرَّمَت (جهاده) في سبيل (العروبة)، و(الوحدة العربيّة)، وجعلت مثواه في أكرم بقعة منها إلى جانب بطل الإسلام، منقذ القُدْس (صلاح الدِّينِ الأيُّوبيّ)، قال الشّاعر[15]:

باتَ (العِراقُ) على شَجْوٍ يُكابِدُهُ
رَهْنَ السَّلاسلِ، يشكو ليلَ مِحيْارِ
وباتتِ (الشّامُ) في أوْجاعِ مكتئبٍ
يمشي بها الحُزنُ في سهلٍ وأوْعارِ
شجا (بني عبد شمسٍ) أنْ مضى قَمَرٌ
من (هاشم) لم يَخُنْهُ كَسْفُ أنوار
كأنَّ (مروانَ) خلفَ النّعْش من جَزَعٍ
أصيب في مُلكه الغالي بمُنْهارِ
مِنْ حولِه زُمَرُ الأملاكِ في حَشَدٍ
كأنّما هي في تشييع (عَمّارِ)
في موكبٍ يَحْسِرُ الأبصارَ مائِجُهُ
تخالُهُ طافياً في دمعهِ الجاري
كُلُّ البلادِ مناحاتُ وأرْدِيَةٌ
سُودٌ على أبيضِ الأثوابِ مِعْطارِ
ملهوفة، تَتَوافى لِلعَزاءِ بهِ
قَوافِلاً بينَ وُرّادٍ وصدّارِ
لئن حُرِمْتَ ثَرَى (بغداد) تَنزِلُهُ
وما كمثلِ ثَراها طِيبَ أبْشارِ
لقد نزلتَ ثرى أهْلٍ ذوي رَحِمٍ،
كَرَفْرَفِ (الخُلْدِ)، لم يدنس بأوْضارِ
زاكٍ، ثَوَى السُّمَحاءُ الطَّاهِرون بهِ
من كُلِّ خَيّرٍ قومٍ وابْنِ أخيارِ
من نازليهِ (صًلاحُ الّديِنِ).. أيُّ فتىً
صانَ الحِمَى من صَليبِيّينَ خُتَّارِ
جاوَرْتَهُ، فتباهَى أنْ غَدَوتَ له
جاراً، ويفرَحُ مِسْعارٌ بمسعارِ[16]
جارانٍ.. فاخَرَتِ (الشّامُ) السّماءَ بأنْ
باتا بها قَمَرَيْ سارِينَ نُظّارِ
يُسْتَهْدَيانِ إلى سُبْل العلى أبداً،
فَيَهْدِيانِ، وما هادٍ كغَرّارِ
يُريد لِلخَيِّرِينَ الأرْذَلُونَ أذىً
ويُكْرِمُ الخَيِّريِنَ الخالقُ الباري

 

وتعَدَّدَتْ زيارات الشّاعر (دمشقَ): يقضي فيها فصل الصيّف، يتمتّع بهوائها العليل وبمناظرها الخلابة، متنقِّلاً بين رياضها ومُتَنَزَّهاتها، محاطاً بنُخْبة من أبنائها المقدّرين لفضله وأدبه، حتّى إذا كان صيف سنة 1937 أقام الأستاذ الرَّئِيس (محّمد كُرْد عليّ) حفل تكريم للشّاعر، وكان (المجمع العلمّي العربيّ) قد انتخبه عضواً فيه[17]، وفي هذا الاحتفال أنشد رائعته في (دمشق)[18]:

مَنْ عَذيِرٌ من الهوى ومُجِيرُ؟
فضَحَ الشَّوْقُ ما أجَنَّ الضَّمِيرُ
أنا في قبضة الجمال.. فخَوْدٌ
تستبيني، وروضةٌ، وغَدِيرُ

 

وبعد هذا الاستهلال الرّائع الّذي غلب الشّاعر فيه شوقُه إلى (دمشق)، وبواعث حبّه لها، أخذ يصف مفاتن الطّبيعة فيها والجمال الآسر، قائلاً:

هذه (جِلَّقٌ).. تبارَكَ رَبّي!
بَلَدٌ طَيّبٌ، ورَبٌّ غَفُورُ!
الهوى، والهواءُ، والجدولُ الرَّقْ
راقُ، والرَّوْضُ، والسَّنا، والحُورُ
حيثُما تَغْتَدِ، فروضٌ أرِيضٌ
عنبريُّ الشَّذا، وماءٌ نَمِيرُ
وظِلالٌ ممدودةٌ وَهْيَ تَنْدَى
وشُعاعٌ يَرِفُّ وَهْو مُنِيرُ
من سَنَا الشَّمْسِ فَوْقَها ومن الزَّهْ
رِ.. دَنانِيرُ عُسْجَدٍ، وعبيرُ

 

ويبدع الشّاعر في وصف جوّ (دمشق) وما تُورثه في نفوس عشاقها، قائلاً:

يُقْتَلُ القَيْظُ في ذَراها. ولكِنْ
في ذَراها يحيا الهوى ويَسُورُ
جِئْتُ آوِي من الحَرُور إليها
فإذا في الحشا يَشِبُّ الحَرُورُ
أنا.. منها، ومن مَهاها اللّواتي
يَتَقَتَّلْنَ رِقَّةً، مسحورُ
كُلُّ بيضاءَ في لَواحِظَ سُودٍ
رَفَّ في خَدِّها الدَّمُ المُسْتَحِيرُ
في قَوامٍ لَدْنِ المَجَسَّةِ رَيَّا
نَ، وخَصْرٍ من الضَّنَى يستجيرُ
وصِباً ناضِرِ الشَّبابِ.. غَذاهُ
تَرَفُ العيشِ، والنَّعيِمُ الوَثيرُ
وأديمٍ مُنَعَّمٍ في حَبِيرٍ
يُوِهمُ العَيْنَ ماؤُهُ والحَبِيرُ
لمَعَا.. كالسَّراب شَفَّ، فلم يَدْ
رِ: أماءٌ لألاؤُهُ أمْ نُورُ؟
تنفُثُ السّحْرَ في الخَليِّ، فيَشْجَى
وتُثِيرُ الهوى به، فَيثُورُ
ولقد زانَها النُّفُورُ، وحُسْنُ ال
حُسْنِ في الغادة العَرُوبِ النُّفُورُ
كَرَّمَ الله وَجْهَ كُلِّ نَوارٍ
صانَها الطُّهْرُ والحياءُ الوَقُورُ
ليَ من هيكلٍ الجَمالِ المعاني،
يَجْتَليها قَلِبْي، ويَذْكُو الشُّعُورُ

 

ويمضي الشّاعر بعد هذا الوصف البديع لما فعله الجمال في نفسه، إلى تحديد (مُتَنَزَّهات دِمَشْقَ) الّتي ملكت عليه لُبَّهُ، فيقول:

وَطَنُ العُرْبِ، جَنَّةٌ.. و(دِمَشْقُ)
رَفْرَفٌ أقْدَسُ المَطافِ طَهُورُ
شَرِقَتْ بالرُّؤا مَسارِحُها الخُضْ
رُ، ورَوَّى نَعِيمَهُنَّ السُّرُورُ
رُبَّ نادٍ، تَخِذْتُهُ في الرَّوابي
أقرأ الحُسْنَ منه وَهْوَ سُطُورُ
فعلى (الغُوطَتَيْنِ) والشَّمْسُ تبدو
وعلى (النَّيْرَبَيْنِ) وَهْيَ تَغُوُر
فإذا (جِلَّقٌ) رِياضاً وُدوراً
كالمصابيحِ حَفَّها الدَّيْجُورُ
عالَمٌ.. من زَبَرْجَدٍ، طاف بال
دُّرّ، وأذْكاهُ بالرُّوَاء النُّورُ
ساحِرُ المُجْتَلىَ.. أطَلَ عليه
(قاسيونٌ) كأنَّهُ مذعورُ!
يَغْرَقُ الحِسُّ في سَناه، ويَفنَى
في تَهاوِيلِ سِحْرِهِ التَّفْكِيرُ

 

ويصف الشّاعر (ليالي دمشق) بعدئذٍ، فيقول:

أنا إنْ أنسَ لستُ أنْسَى لياليَّ
إذِ البَدْرُ ضاحِكٌ والثُّغُورُ
وكأنّ الأكوانَ في دافقِ النُّو
رِ بُحٌوِرٌ قد أغرقتها بُحُورُ
يمرَحُ القلبُ في سَناها كما يَمْ
رَحُ في الماء سابحاً عُصْفُورُ
قد تَفَرَّدْنَ بالصبَّاحةِ، لولا
وَجَناتٌ نازَعْنَها ونُحُورُ

 

ثم يخصّ الشّاعر ما حبا الله (دمشق) من (طبيعة فاتنة) بهذه الأبيات:

حَبَّذا (الشّامُ) ماؤها وهواها
ومسَارِي أنهارِها والقُصُورُ
وميادينُ حُسْنِها وَهْيَ شَتَّى
ومغاني اللذّاتِ وَهْيَ كثيرُ
جادَها الغيثُ من مَعاهِدَ.. لا اللُّطْ
فُ عَداها، ولا النَّعِيُم الحبيرُ
مُحْسَنات الأوقاتِ، حتى ضُحاها
وَشَّحَتْهُ بلُطْفِهِنَّ البُكُورُ
وبنفسي خَريرُ (أنهارِها السَّبْ
عَةِ) دَوّامةً عليها الطُّيُورُ
تتلَوَّى كالأيْنِ رِيعَ، وتَهْتَ
زُّ ارْتِعاشاً، وترتمي، وتمورُ
وَهْيَ آناً في السَّهْلِ تعدو، وآناً
في الرَّوابي المُسَلْسَلاتِ تُغِيرُ
تغمُرُ (الغُوطَتَيْنِ) بِشْراَ وزَهْواً
مثلَما يَغْمُرُ النُّفُوسَ الحُبُورُ
وعلى صوتها الطُّيُورُ تَغَنَّى
ولقد يُطرِبُ الطُّيوُرَ الخرِيرُ
عَشِقَتْ لَحْنَهُ، وللماء لحنٌ
يُسْكِرُ السَّمْعَ جَرْسُهُ المخمورُ
حيث تغدو يُلْهِيكَ منها سَماعٌ
ومن الرَّوْض مُؤنِقٌ منضورُ
عُرُسٌ.. قام للطَّبيعَةِ فيها
يَسْتَخِفُّ الإنْسانَ وَهْوَ وَقُورُ
تَهْزِجُ الطَّيْرُ والأنَاسِيُّ فيه،
ويَمُور السَنا، ويذكو العَبِيرُ

 

وبعد هذا الوصف المترف لجنات دمشق وأنهارها، وغناء طيورها، يقف الشّاعر لحظة، ويقول:

قِفْ تَمَتَّعْ ممّا تَراهُ قليلاً،
وقليلٌ مِمّا تَراهُ كثيرُ
للأنوفِ الشَّذا أريجاً، وللِسَّمْ
عِ الأغاني، ولِلّحاظِ البُدورُ!

 

وحين كانت (أعراس الشّام) سنة 1947، بعد أن مضى عام كامل على جلاء المستعمر عن ثراها الطّيّب، أحبّ شاعرنا الكبير أن يهنيء (دمشق) في أعيادها، ويشكر لأبنائها حفاوتهم به، فأعدّ خريدته (دِمَشْقُ في ذكرى الجلاء)[19]، وأنشدها في (دار المجمع العلميّ العربيّ):

يا نسمةً خَطَرتْ من أرض (جَيْرُونِ)
حُيّيتِ عاطرةً، جاءت تُحَيّيني
بَكَرْتِ، والفجُر في أوْضاحِ فاتنةٍ
تَبَرّجَتْ لِفَتىً هَيْمانَ مفتونِ
هَلْ أنتِ للوافدِ المشتاقِ حاملةٌ
من رَوْح أهلِكِ أنفاسَ الرَّياحينِ؟
الِلينُ واللُّطْفُ والرَّيّا الّتي انبعثت
رُسْلُ الأحبَّةِ تلقاني وتدعوني
(بنو أمَيَّةَ).. مازالوا كما خُلقُوا
بنو المكارم والآداب والِلينِ
لاقَيْتُ منهم كلألاء الضُّحَى غُرَراً
هَشَّتْ إليَّ تُحَيّيني وتُحْيِيني
من كُلِّ ناصِيةٍ زهراءَ لامعة
كَعْسجَدٍ تحتَ وَقْدِ الشِّمْسِ مفتونِ
أصبحتُ فيهم تهاداني سَراتُهُمُ
كأنّني مُصْحَفٌ في بيت ذي دينِ
أنا المُفَضَّلُ بالنُّعْمَى، ومن عَجَبٍ
أنْ جاء يشكُرُني من باتَ يَقْرِينيَ!
عُوِّدْتُ كُلَّ جزيلٍ من فواضلهمْ
قِدْماً، وكُلَّ وِدادٍ غيرِ مظنونِ
أنا الشّكُورُ على ما قد خُصِصْتُ به
من الأيادي، وما شكريِ بَمْمُنونِ
سيذكُرُ الدَّهْرُ عنّي كُلَّ سائرة
من الثَّناء عليِهمْ في الدَّواوِينِ
قد أوْسَعُونيَ إجلالاً وتَكْرِمِةً
فِجئْتُ أوسِعُهُمْ مدِحي وتلحيني

 

ثم غفر الشّاعر للَّدهْر ما لاقاه من صروفه، تكرمةً لدمشق، ذاكراً مقامه في (جبل قاسيون) المطلّ عليها، واصفاً روعة تلك المناظر، قائلاً:

غَفَرْتُ للدَّهْر أيّاماً.. سَلَفْنَ له
لمّا أتانيَ في (الفَيْحاءِ) يُشْكِيني
لي في خمائِلها الخُضْر الّتي حَسُنتْ
عُلْيا المَقاصِير من سُكْنَى الميامينِ
من تحتها (بَرَدىَ) نَشْوانُ مُطّرِدٌ
بدافقٍ من رَحِيقِ الخُلْد مضنوني[20]
كأنَّهُ، وشُعاعُ الشَّمْسِ ضاحَكَهُ
فِرِنْدُ سيفٍ صقيلِ الوجهِ مسنونِ
تَنضَّرَتْ حولَهْ الدُّنيا به، وزهت
بزُخْرُفٍ من لباس الحسن موضُونِ
ما أجْمَلَ الأيْكَ في شَطَّيْهِ حانيةً
من الحفاوة في أثوابِها الغِينِ!
تلك المفاتنُ.. شاقت كُلَّ ساجعةٍ
فَهَيَّجَتْها بألْحانٍ أفانينِ
أكْرِمْ به مُنْبِتاً زَهْراً، وفاكهةً
شَتَّى، ومُسْدِيَ خَيْراتٍ وماعونِ!

 

ثمّ تساءلَ الشّاعر عن مفاتن (دار النعيم) الّتي لا تخلو منها (دمشق) قائلاً:

أيٌّ المفاتنِ في دار النَّعيم.. خلتْ
منها (دمشق)؟ وأيُّ الرَّبْرَبِ العِينِ؟
خميلةُ الله.. ما اهتزَّ الثَّرىَ طرَباً
بمثل ما طاف فيها من تزايينِ
كُلٌّ ضَحوكٌ على ضاحي مَشارِفها
زُهْرُ الَّسماء وأزْهارُ البساتينِ
كأنَّما الْجَوُّ، إذْ يَنْدَى بهاعِبقاً،
لَطِيمةٌ نُشِرَتْ من عِطْرِ دارِينِ[21]

 

ثمّ هّنأ الشّاعر دمشق (جلاء الغاصب) عنها، قائلاً:

يا دارَ (مروانَ).. دام البِشْرُ مؤتلقاً
على جَبِينِكِ لمَاحَ التَّلاوِينِ
كَرَّمتِ مَجْدَكِ أنْ لم تعقِدي عَلَماً
إلا على فَرْقِ بَرٍّ منكٍ ميمُونِ
ستذكُرُ الدَّولةُ الرَّعْناءُ مُعْتَركاً
تَعَضُّ مِنه يَدَيْ نَدْمانَ محزونِ
خَرَجْتِ منه كنَصْلِ السَّيْف منصلتاً
يزهو، وباءَتْ بِخْذلانٍ وتوهينِ
يا ليتَ عَيْنِيَ، لمّا أجْلِيَتْ، شَهِدَتْ
بِشْرَ الْجِنان بإجْلاء الشَّياطينِ
من كُلِّ أصْهَبَ.. كان الكِبْرُ شارتَهُ
يرمي بَنِيكِ بطَرْفٍ منه مسنونِ
فنَكّس الله بالإذلالِ هامَتَهُ
وعادَ خَزْيانَ يمشي مَشْيَ موهونِ!
لا يَرْفَعُ اللَّحظَ إلا وَهْوَ يَخفِضُهُ
أعجِبْ بلحظٍ.. بخّدِ الأرض مقرونِ!

 

وأنهى الشّاعر قصيدته مخاطباً (دمشق)، داعياً إيّاها إلى التَّمَسُّك بعروبتها وإسلامها، لتَصُونَ جمالها الّذي يفتديه بنفسه، قائلاً:

يا حُرَّةً.. لم تَدِنْ يوماً لآسِرِها
ويا فَتاةَ المَطاعِيمِ المطاعينِ
إنَّ العُرُوبةَ والإسْلامَ. ما فَتِئا
هُنا بِوادِيكِ في عِزٍّ وتمكينِ
في جبهة الفَلَكِ الأعلى مَقامُهما
منه، وفي مَرْبَأ الشُّمِّ العَرانينِ
هُما جَناحاكِ.. مَدَّ الله ظِلَّهُما
على البَرِيَّةِ من دُنيا ومن دِينِ
صُوني جمالَكِ في الدُّنْيا بسِرِهّما
يَصُنْكِ من دَرَكاتِ الخَسْفِ والهُونِ
ما يبتغي (الغرب) من فَيْحاءَ وارفةٍ
تعيشُ في كَنَفٍ للدَّهْرِ مأمونِ؟
شَمّاءُ.. تَفْرَعُ هامَ البَغْيِ عِزَّتُها
بأساً، وتَجْبَهُ عُدْوانَ المَهاجِينِ
وَقَتْ (دمشق) الرَّزايا رحمةٌ، برأت
(دِمَشْقَ) من نفحاتِ اللُّطْفِ واللينِ
نفسي فداءُ جمالٍ.. طالما نَعِمَتْ
نفسي به في ليالي عيشيَ الجُونِ!

 

ولما وقعت حرب حزيران 1967، تفجَّرَ الألَمُ الَّذي استولى على الشاعر قصيدةً طويلةً، ذكر فيها (دمشقَ)، مشيداً بجهادها، مشيراً إلى دخول القائد الفرنسي (غورو) مدفن (صلاح الدّين الأيُّوبيَّ) ومخاطبته الضَّريح قائلاً: "نحن حَفَدَةُ الصَّلِيبيّين هنا يا صلاح الّدِين".

 

قال الشّاعر[22]:

وأينَ في (الشام) «غورو» في جَحافِلهِ
يُغيِرُ وَهْوَ يَدُكُّ الَّسِلْمَ تذليلا؟
بل أين في (القدس) «أللنبي» وقدرَعَبَتْ
رُعُودُهُ جَنَباتِ «القُدْس» توهيلا[23]
نَشْوانُ من صَلَفٍ، مَلآنُ من حَنَقٍ
يجُرُّ سيفاً على الغَبْرِاءِ مصقولا
يا شاهِرَ السَّيْفِ مَزْهُوّاً بباطلِه
وعارضَ الجيشِ بعدَ الجيشِ تحفيلا
خَلِّ الغُروَر. فإنَّ الحَقَّ ما بَرِحَتْ
شَباهُ تَرْجِعُ حَدَّ الَّسيْفِ مفلولا
قضى له الله بالعُقبْى.. إذا صَحِبَ ال
إيمانَ والصَّبْرَ، وَعْداً منه مكفولا
يَرْمي به باطلاً منه فَيَدْمَغُهُ
يا.. طالما دَمَغَ الحَقُّ الأباطيلا
إنّ الحُرُوبَ سِجالٌ بَيْنَنا أبَداً
كَأنَّها الدَّيْنُ في الَّلأواءِ ممطولا
إنْ لم تكونوا لنا سِلَمْاً، نكن لكُمُ
حَرْباَ.. تبادرُكم بالموت تعجيلا
إنَّا سنُلْحِقُ بالماضِين حاضِرَكُمْ
مِمَّنْ يَجِيءُ حَنِيقَ الصَّدْرِ مثكولا
لَنَصْبِرَنَّ، كآباءٍ لنا صَبَرُوا
صَبْراً.. يُعيدُ سَوادَ الليل تحجيلا
نحن الجواهِرُ.. ما هانت معادِنُنا
على الزَّمانِ كُماةً أو مَعازِيلا

 

هذا هو الشّاعر البغدادّي الكبير، الّذي مَحَضَ (دمشق) الخالدة الحُبَّ كُلّه، وهذه هي (دمشق) بجمالها ومفاتنها تَزينها غِلالة من حبّ الشاعر وإعجابه.

 

إنّ (شعر الأثريّ) نموذج حديث للشّعر الأصيل في ألفاظه المنتقاة، ولغته المشرقة، وأسلوبه القويم، وجَرْسه المطرب. وشعره في (دمشق) خير دليل على ما حبا الله الشاعر من رَهافة الحسّ، ورِقَّة الُّشعُور، وتذوُّق للجمال، ودليل ناصع على ما يملكه الشّاعر من أدوات استطاع معها الإبداع في وصف الجمال وتصوير ما يفعله في نفوس المحبين.

 

حفظ الله (شاعرنا الكبير) ذُخْراً للضّاد أمّ اللُّغَى.

 

وحفظ الله (دِمَشّقَ) مصدراً للحُبّ والإلهْام.



[1] ظهر الديوان في أواخر عام 1974 عن (الهيئَة المصرية العامة للكتاب)، وهو من منشورات (وزارة الثقافة) في (جمهورية مصر العربية) بتوصية من (لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية)، وقد كتب مقدمة رائعة له رئيس اللجنة شاعر مصر الكبير وفقيد العربية الأستاذ (عزيز أباظة).

[2] القصيدة في ثمانية وثلاثين بيتاً، وهي مثبتة أيضاً بدءاً من الصفحة 263 من الديوان.

[3] القصيدة في 46 بيتاً، وهي منشورة بدءاً من الصفحة 84 من الديوان.

[4] الأباء (الثانية): بفتح أولها: القصب، وهو سريع الاحتراق.

[5] أنى: حان وقته.

[6] ألفاو: بلدة في أقصى الجنوب من العراق.

[7] القصيدة تبلغ 35 بيتاً وهي منشورة بدءاً من الصفحة 93 من الديوان.

[8] وصف للسجن الذي سدت نوافذه.

[9] تبلغ أبيات هذه القصيدة الثمانين، وهي منشورة بدءاً من الصفحة 97 من الديوان.

[10] القصيدة في 21 بيتاً، وهي منشورة بدءاً من الصفحة 114 من الديوان.

[11] القصيدة طويلة في 78 بيتاً ومنشورة بدءاً من الصفحة 249 من الديوان.

[12] أوفدت الحكومة العراقية الشاعر إلى مصر، ليدرس قوانين الأوقاف ومناهج الأزهر الشريف التعليمية، وسلكته في الوقت نفسه في سلك وفد النواب، ووفد الطلاب، ليكون من ألسنتها في المحافل وفي الصحافة..

[13] القصيدة في 43 بيتاً منشورة بدءاً من الصفحة 186 من الديوان تحت عنوان «أمة وحدت هوى وسبيلا».

[14] القصيدة في الصفحة 190 من الديوان.

[15] من قصيدة طويلة عنوانها (ملحمة الانقلاب الشعوبي) أنشدها في احتفال كبير مشهود، أقامَهُ الساسة المخلصون ببغداد في سنة 1937، بعد أن دال الحكم الشعوبي الذي دهم العراق في أواخر عام 1936، وشاركت فيه ـ إلى جانب ساسة العراق وخطبائه الوطنيين - وفود رسمية وشعبية من الأقطار العربية، بينها نفر من أعيان الخطباء وكبار الشعراء والقصيدة في 121 بيتاً، وقد نشرت في الديوان بدءاً من الصفحة 73.

[16] مسعار: شجاع يسعر الحرب دفاعاً عن قومه.

[17] في سنة 1931.

[18] القصيدة منشورة في الديوان بدءاً من الصفحة 324.

[19] القصيدة منشورة في الديوان بدءاً من الصفحة 192.

[20] مضنوني: نسبة إلى «مضنونة»، وهي بئر زمزم في بيت الله الحرام بمكة.

[21] اللطيمة: وعاء المسك. - دارين: فرضة «ميناء» بالبحرين، يجلب إليها المسك من الهند.

[22] من قصيدة طويلة جاوزت 150 بيتاً، عنوانها: «حرب حزيران 1967»، وهي منشورة في الديوان بدءاً من الصفحة 231 (ديوان الأثري ج 1).

[23] أللنبي: قائد الجيش الانكليزي الذي فتح القدس في الحرب العالمية الأولى، وقد قال في معرض الفخر: «اليوم انتهت الحروب الصليبية».





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • دمشق .. في ذكرى جلاء فرنسة (قصيدة)
  • القراءات وكبار القراء في دمشق .. من القرن الأول الهجري حتى العصر الحاضر
  • دمشق الشام بين العهد العبيدي الفاطمي والعهد السلجوقي
  • تأريخ صدور ديوان القاضي عبدالوهاب البغدادي المالكي

مختارات من الشبكة

  • مقدمة ديوان " لحن الجراح "(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • مقدمة لا تشبه المقدمات(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • المختصر المفيد لنظم مقدمة التجويد: (مختصر من نظم "المقدمة" للإمام الجزري) (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مقدمة في أصول التحقيق (مقدمة كتاب الانتصار)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • دراسة في مقدمات العلم: المقدمات العشر للتحرير والتنوير أنموذجا(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • 27 مقدمة من أروع مقدمات الخطب(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التناقض في مقدمات الأدلة الإرشادية للقرائية ومقدمات كتب اللغة العربية لما قبل التعليم الجامعي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الدواوين في الخلافة الإسلامية(مقالة - موقع أ. د. عبدالحليم عويس)
  • مقدمة ديوان ملحمة حر(مقالة - حضارة الكلمة)
  • مخطوطة شرح ديوان أبي تمام ( شرح ديوان الحماسة لأبي تمام )(مخطوط - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب